الجيّة.. مدينة الأرجوان التاريخيّة

0

صحيفة البناء اللبنانية ـ
ميرنا عبد الله:
هي أشبه بجزيرة خضراء يحتضنها البحر ويلفح بأمواجه عليها، ليعانق قرميد منازلها وتراثها، شواطئها الرائعة تحكي قصصاً وأساطير عنها، إنها الجيّة، أو «Gayyo»، وتعني المكان الهادئ واللطيف، يقال أن اسمها ورد مرات عديدة في النصوص والكتابات التاريخية القديمة، ومنها نص يتحدث عن حملة الملك الأشوري أسرحدون على صيدا جاء فيه: إن الملك الأشوري بنى مدينة جديدة أطلق عليها اسم «كار أسرحدون» لتسيطر على المناطق التي كانت تابعة لمدينة صيدا، وهي من الجنوب الى الشمال: بيت صفوري، سيكو، جي (الجية)، أنعمة (الناعمه)، خلدو (خلده)، بيرو (بيروت).
دخلت معظم الشعوب، بمختلف أديانها، حارات وشواطئ الجية، فموقعها الجغرافي الهام شكّل وسيلة جذب مهمة، حيث اكتسبت منهم تسميات عديدة مثل «بورفيريون» أي مدينة الأرجوان التاريخية القديمة، الذي أطلقه عليها اليونان. ويقال إن هذه المدينة تهدّمت بفعل الزلازل، ولا تزال آثارها داخل الرمال على شاطئها.
ورد ذكر مدينة «بورفيريون» في العام 218 قبل الميلاد، حين زحف الأمبراطور السلوقي أنطيوخوس الثالث ضدّ خصومه البطالسة، وقد دارت معركة ضخمة في البر والبحر على الشاطئ الضيّق عند «بورفيريون» والمناطق المجاورة لها.
جغرافياً
تبعد الجيّة عن بيروت 30 كيلومتراً، وهي من المدن البحرية القديمة على ساحـل الشـوف ومن أكثر بلداته طولاً، إذ تمتد مسافة 7 كيلومترات على طول الساحل الذي يحيـط بخـليج طبيعي جميل، يحدّه رأس السعديات من الشمال، ورأس النبي يونس من الجـنوب. ويبلغ عدد سكان البلدة نحو 20 ألف نسمة، هاجر أكثر من نصفهم الى أستراليا. العائلات المتحدِّرة من بلدة الجية هي: القزي، البستاني، الحاج، الكجك، الخطيب، نخله، حاتم، عيسى، فرحات، صالح، عبود، ديب، متري، بركات، معوش، أبو صالح.
صرخة الجية وأهاليها
أخبارها وحكاياتها لا تنتهي بكلمتين او سطور، منظرها الطبيعي أكبر من أن يوصف بالكلمات، إلاّ أن القدر والحياة لا يسمحان لمحلة أو مشروع ان يكون كاملاً متكاملاً، فالجيّة وللأسف تفتقد لمن يرعاها ويحسم أمر مشاكلها التي تؤذي تجارتها ومشاريعها، خصوصاً اليوم وموسم الصيف على الأبواب، كون معظم الناس يترددون على شواطئ الجية ليتمتعوا بالمنظر الجميل، والخدمات الجيدة، إلاّ أن عدداً كبيراً منهم بات يفضِّل أن زيارة شواطئ بعيدة، على أن يمر على طرقها شبه المعبدة، المليئة بالحفر، كما تعلوها من كافة الجهات آرمات وإعلانات لا تنتهي وتقريباً على عدد الحفر الموجودة: إنتبهوا أشغال عامة ….. البلدية تعمل لأجلكم. فبعد زيارة «البناء» للجيّة لمست مشاكلها وكالعادة قررّت مشاركة أهالي الجيّة معاناتهم، ولو بجزء بسيط، علّ صوتهم يصل إلى المسؤولين سيساعد على تغيير واقعهم.
طرق غير مؤهلة للسير
وفي سؤال طرحته «البناء» على أحد الشبان عن المشاكل التي تعانيها الجيّة، تردّد في البدايةً ثم قال: «إنها كثيرة ولا تنتهي»، ملقياً باللوم على الدولة التي لا تؤمن الأموال اللازمة ولا حتى نصفها، فالطرق جميعها مدمرة وغير مؤهلة للسيارات، حتى أن هناك منازل لا تصلها السيارات، لأسباب كثيرة أولها الحفر.
أما في رأي مواطن آخر فكان: «إن الجيّة هي من أفضل المناطق، ولا تعاني من مشاكل»، على الرغم من أننا لمسنا عدة مشاكل خلال وجودنا على أرضها كرائحة المجارير والحفر الممدودة على طول الطريق والتي كانت تتسبّب بأكثر من حادث.
هذا مع اعتراض العديد منهم على قول الحقيقة المرة، كون الجيّة اليوم تزهو بموسم جديد هو موسم الاصطياف، وأن كلمة واحدة قد تنشر في أي وسيلة اعلاميّة سوف تؤثِّر بشكل أو بآخر على مردودها ونجاح موسمها، وعلى الرغم من الغصة المرة ظاهرة بين أعين أهاليها حسرة على حال منطقتهم. وعما إذا كان للبلدية دور سلبي أو إيجابي في هذه المشاكل، وما إذا كانوا يتحركون تجاه تخفيف المشاكل، قال معظهم أن ضميرهم لا يسمح لهم بالتعارض مع رئيس البلدية ومشاريعه الإنمائية، حيث يسعى جاهداً لتأمين كافة حاجات المواطنين.
مدينة راقيّة، ولا أماكن شعبيّة
توجهت «البناء» إلى جورج قزي، رئيس بلدية الجية، الذي يترأسها منذ أكثر من 7 سنوات، فتبين أنه كأهالي الجية يعاني من مشاكل عديدة رئيسيّة غير الثانويّة، وأنه يريد إيصال صوته أكثر، لتحل المشكلة ألا وهي:
1 –    مشكلة الأتوستراد: الذي يمر في الجية من اولها إلى آخرها، أي في الـ 7 كيلومترات التي تشكل امتدادها الطولي، فهو أشبه بوباء كما وصفه قزي، كون الاتوستراد مقفلاً من ناحيّة الجية، ولا توجد طرق فرعيّة أو جانبيّة تحل مكانه ليصل المواطنون إلى منازلهم، أو بالعكس، فمن المعروف أن عدم وجود طريق فرعيّة تجبر الدولة على فتح الأتوستراد، أما المواطنين الذين خسروا عقاراتهم او باعوها بنصف الثمن، فانهم فعلوا ذلك لعدم وجود طريق تصلها بالجوار، وعن تصرف البلدية في هذا الشأن، أضاف قزي: «طالبنا وراجعنا وزارة الأشغال، وكل ما حصلنا عليه هو كلمة «معكن حق»، إلاّ ان مشروع فتح طرق فرعيّة مكلف كثيراً، ومثل هذا الكلام يدل على أنهم يعملون بقانون الاستخفاف بنا وبالناس. مع هذا نقوم بتحمل دفع الضرائب أو ما يسمى بضريبة التحسين. إلاّ أننا قمنا نحن البلدية بشق طرق جديدة تؤمن احتياجات المواطن الضروريّة، كما نعمل من اجل تحسين منطقتنا قدر الإمكان».
2 –    مشاكل الصرف الصحي: «وبعد ان نفذنا عدة مشاريع للصرف الصحي في احياء مختلفة من البلدة، يبقى لدينا مشكلة كبيرة هي تصريف المجارير والصرف الصحي عن طريق إيجاد امدادات فاعلة لا تصلها بالبحر كبيروت، بل عملنا على حفر حفرة كبيرة يصب فيها الصرف الصحي وكل يوم نقوم بسجب وتفريغ هذه الحفرة عن طريق «سترنات ماء» تابعة للبلدية لنقلها إلى محطة التطرير التي انشاتها أيضاً البلدية».
وعن المشاريع الجديدة قال قزي: «نعمل اليوم على تأهيل وتوسيع مبنى البلدية، ليضم صالات وقاعات للاجتماعات مع تزويد البلدية بآليات وتقنيات جدية، إضافة إلى المشاريع الإنمائية الكبيرة كالكشف عن الآثار المطمورة التي ستستعيد أمجادها الغابرة، حيث تشهد أمواج البحر وآثار الشاطئ عليها».
تحديد نسب الاستثمار:
والأهم في هذا الموسم، هو تحديد الاستثمار في الجية لتحويل المنطقة إلى مدينة سياحية – راقيّة بامتياز، بعيداً عن المباني العادية بل شقق فخمة وفيلل وشاليهات تخدم السياح من جهة، وتعود بربح جيد على الجيّة، ما يساعد على ازدهارها وتطورها، بعيداً عن المباني الشعبيّة والكثافة السكانيّة.
تاريخ الجيّة
آثار
لا تزال رمال الجية تخفي آثاراً من العهود القديمة المختلفة، من الفينيقية الى العربية الإسلامية، إلا أن جهود أعمال التنقيب لمديرية الآثار، كشفت عن آثار هامة في البلدة.
فيما كشفت التنقيبات أن المدينة عرفت بين القرنين الرابع والسابع للميلاد أكبر إتساع لها كمحطة على الطريق الساحلية بين عكا وإنطاكيا، وقد شيّدت فيها البيوت التي تضم غرفاً عدة ورصفت أرضيتها بالفسيفساء من اللون ذاته لتسهل صيانتها، وتظهر فيها الشوارع الضيقة المجهزة بالمجارير والأقنية، لتصريف المياه الى البحر؛ وكان للمدينة نبع يزودها بالمياه العذبة، وما يلفت الإنتباه أيضاً وجود معاصر للزيتون بكثرة، ولا تزال حجارتها متناثرة في المكان لارتباط غنى المدينة بالنشاط الزراعي الى جانب نشاطها التجاري. وفي الجهة الشمالية من موقع «بورفيريون» تمتد مدينة مدفنية كاملة، فيها مقابر محفورة في الصخور الرملية، تمتد في محاذاة الشاطئ بطول 100 متر وعرض 50 متراً؛ كما يوجد فيها مغاور مدفنية تعود الى فترات تاريخية مختلفة، منها مقابر يونانية مكلسة بالكلس على شكل نواويس وهناك آبار مدفنية ذات طبقتين مع أغطية نواويس حجرية تعرّضت للنهب والتدمير.
مقام النبي يونس
تعود هذه التسمية الى التقاليد المحلية التي تجعل من هذا الموقع المكان الذي لفظ فيه الحوت النبي يونس، أو يونان، بعد أن ابتلعه وبقي في بطنه لمدة ثلاثة أيام. ويعود تاريخ بناء مقام النبي يونس الحالي الى عهد المماليك الذين حولوا المعبد القديم الى مسجد إسلامي على إسم النبي يونس، وذلك بعد طرد الصليبيين من البلاد، ولا تزال إشارة الصليب البيزنطي مع نجمة على الأعمدة داخل المقام.
وقبيل اندلاع الحرب اللبنانية، جرت في الموقع حفريات أثرية كشفت عن أطلال منازل ومنشآت من العصر البيزنطي على جانب كبير من الأهمية. فقد كانت جدرانها العالية مكسوة بالرسوم وأرضياتها مرصوفة بالفسيفساء، حتى أن بعض علماء الآثار اعتبر حالة الحفظ التي تتمتع بها أطلال النبي يونس، مشابهة لحالة أطلال مدينة بومباي الرومانية الشهيرة.
وقد ذكر الرحالة الذين مرّوا في هذا المكان، خلال القرنين الماضيين مقام النبي يونس كما عرّجوا على الخان الذي بني الى جانبه؛ ولا يزال المقام قائماً في موضعه حتى الآن، وتصل اليه عبر طريق فرعية من الطريق العام، وحيث يبلغ طوله نحو 11 متراً وعرضه عشرة أمتار، وتدخل إليه من بوابة صغيرة في وسط السور من الجهة الشمالية.
الكنيسة البيزنطية
تقع أنقاضها على شاطئ البحر مباشرة، الى الجنوب من أنقاض مدينة «بورفيريون» مدخلها من جهة البحر، ويبلغ طولها نحو 41 متراً، كانت مكسوة بالفسيفساء والرسوم الجدرانية التي وجدت مجموعات عظيمة منها، فقد أخذت من الكنائس البيزنطية القديمة، كما تم عرض هذه الكنوز في جناح خاص في متحف قصر بيت الدين في الطبقة السفلية ودعي بـ «متحف الفسيفساء البيزنطية».
كنيسة الجية
حين زار الراهب غودار بلدة الجية عام 1900 كانت قرية بيوتها محدودة ومسيّجة بأشجار البلح والصبّار، وقد شاهد فيها كنيسة السيدة، وفيها صورة سيدة النجمة التي أرسلها البابا غريغوريوس السادس عشر الى الأمير بشير، وهذه الكنيسة يعاد بناؤها حالياً من جديد.
قصر المير
بناه الأمير بشير الثاني الشهابي، حين اشترى الجية من آل نكد، والبناء مربّع الشكل يرتكز على أعمدة ثقيلة وجدران سميكة، ولا يزال قائماً حتى اليوم حيث يتألف من رواق خارجي على أعمدة رخامـية أنيقـة وزجاج ملوّن كما كانـت الموضـة سائـدة آنذاك. كما يتألف القصر من الداخل من دار واسعة وعدد من غرف السكن، وقد انتقلت ملكيته الى زوجة الأمير التي تدعى «ست الحسن جيهان» بعد وفاة الأمير.
وقد شيدت داخل القصر كنيسة خاصة في العام 1855، وهولا يزال إرثاً في ذرية بنات الأمير الشهابي حتى اليوم، وقد رممته مديرية الآثار فتحوّل الى بناء حديث نسبياً.
المغارة
في أعالي البلدة، على جانب نهر صغير، تقع مغارة الجية الشهيرة بضخامتها واتساعها وعلوّها الشاهق إذ يصعب الوصول اليها لانحدار سفوحها انحداراً سريعاً، إلا أن النتيجة عند الوصول تلغي تعب الرحلة، فالمغارة من الداخل تخلب الألباب لأنها تشبه المشاهد التي تصوّرها أفلام التشويق.
ويقال إن المغارة كانت تستخدم كنفق بطول كيلومترين، حيث قام الفرنسيون في أيام الإنتداب بإدخال ديك إليها فخرج بعد فتر ة على بعد كيلومترين من مدخل مغارة الجية قرب قصر شمعون، في السعديات، إلا أن هذه الأخبار تبقى غير مؤكدة حتى اليوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.