دوما البترونية مسكن دائم للطبيعة وعنوان للتراث.. التاريخ بنى خزانه فيها والحضارات بكرت اليها

0

الوكالة الوطنية للإعلام ـ
تحقيق غسان عازار:
إذا كان للطبيعة مسكن فهو دوما، وإذا كان للتراث عنوان فهو بيوتها المزدانة بالقرميد، وسوقها الأثرية العامرة بالذكريات.

إنها بلدة سياحية أثرية في جرد البترون، تأنت في نحتها يد الخالق وجعلتها في لوحات من الطبيعة. توجت ملكة جمال البلدات اللبنانية عام 1996، وبلدة سياحية عام 1969، وتدعو روادها إلى الفرح والدهشة بعماراتها التراثية من حارات وبيوت وقناطر مميزة وقبعات حمر تخالها مروجا من شقائق النعمان. وإن زرتها شتاء تجدها عروسا بقبعات بيض عاصية على الريح والأمطار.

والبلدة البترونية خزان التاريخ ومهد الحضارات، ومقصد للسياح وهواة التنزه. فمن ناووس اسكلابيوس أول من ذكر من الأطباء إله الصحة والشفاء، إلى الأميرة الشرقية جوليا دومنا التي ينسب إليها تسمية البلدة دوما، فإلى موقعها الاستراتيجي الذي تحول إلى بوصلة ترشد القوافل من خلال طريق تعرف ب”سكة الشام” أو “طريق الشام” تصل البلدة بالشام مرورا ببعلبك – الهرمل، كما تصلها بالساحل، وقد رافق حركة القوافل بناء سوق تجارية هي البندر، كانت مقصدا للتبضع، مما ساعد على تعزيز دورة الحياة الإقتصادية”.

والبلدة الدومانية التي تميزت بنهضة إجتماعية وصناعية واقتصادية تتباهى بجلول غناء وفيرة من الزيتون والكرمة والتين والتفاح والكرز والإجاص، وبأصناف من الأشجار حددها الإمبراطور الروماني أدريانوس بكتابات على صخورها تفيد أنها لمصلحة الإمبراطورية لبناء السفن دون سواها، ومنها العرعر والشوح.

الموقع والحدود

ترتفع البلدة 1100 متر عن سطح البحر، وتربض على هضبة منبسطة وتطل منها على أعالي جبال لبنان الشمالي والكورة الخضراء وطرابلس الفيحاء وعلى طول الشاطئ، فضلا عن سهول كفرحلدا وبساتين العصي حيث ضفاف نهر الجوز حضارة الإنسان الأول.
تبعد دوما عن البترون مركز القضاء حوالى 30 كيلومترا، إلا أن هذه المسافة اختصرت بسبب توسيع الأوتوستراد، وهو قيد الإنجاز.
يحدها شرقا تنورين، وجنوبا بشعله، وغربا دير مار يعقوب وشمالا كفور العربي وحردين ونيحا وكفرحلدا.

ودوما بلدة مأهولة منذ القدم، وقد استخدمت بحكم موقعها الجغرافي ممرا لنقل جذوع الأشجار إلى الساحل حيث الفينيقيون لبناء السفن وبيع الخشب والمقايضة به. أما في العهدين اليوناني والروماني فعرفت البلدة ازدهارا لكثرة المعابد فيها، وبنيت على أنقاضها كنائس مع نهاية القرن الرابع. ونذكر من هذه المعابد معبد اسكلابيو الذي بنيت من حجارته كنيسة على اسم القديس ضوميط، ولا يزال ناووس اسكلابيوس كاهن المعبد يتصدر مدخل السوق في ساحة البلدة.

اسكلابيوس

والاله اسكلابيوس هو أول من ذكر من الاطباء وأول من تكلم في شيء من الطب عن طريق التجربة. كان يونانيا، واليونانيون منسوبون الى بلدة في المغرب تسمى ايونيا. وترجع تسمية اسكلابيوس في العربية الى منع اليبس، وفي اليونانية الى البهاء والنور.

وذكر جالينوس في شهادة له أن طب اسكلابيوس كان طبا الهيا.

جوليا دومنا
جوليا دومنا أميرة شرقية خصها زوجها الإمبراطور سبتيموس سفيروس ببناء قلعة على اسمها في دوما للاستراحة فيها، فيما هو كان يقيم في قلعة بناها في السفيرة – الضنيه التي اتخذت من اسمه إسما لها، وما زال بعض آثارها قائما. والأميرة الشرقية جوليا دومنا من مواليد حمص عام 170 قبل الميلاد، وقد أغوت القيصر بجمالها وامتازت بعلمها وأدبها وبكرمها وبتكريمها المؤلفين.

ومن معالم قلعتها في دوما “بيت الملكة” الواقع في أعلى البلدة في محلة تدعى فغري حيث حدائق من التفاح وعين مياه صافية وصخور طبيعية، كأن يد الإنسان تغنت في إعطائها أشكالا.

مدرسة الحقوق في بيروت

لقد عرفت الإمبراطورية الرومانية عصرا ذهبيا على أيدي الإمبراطور سبتيموس سفيروس وزوجته جوليا وابنهما كركلا، فالإمبراطور سبتيموس ترجع إليه تأسيس مدرسة الحقوق في بيروت في أواخر القرن الثاني الميلادي، أو في أوائل القرن الثالث، فيما عرفت الإمبراطورية ازدهارا على يد كركلا الذي اشتهر ببناء الحمامات على مساحة الإمبراطورية الرومانية، ويذكر أن حمام كركلا قد وفر للمواطن الروماني مجالات واسعة للعناية بالصحة والجمال. ويقول المؤرخون إن حمام كركلا كان امبراطورية كاملة بحيث كان يحتوي على مركز للتدريب والتدليك وغرف للاستحمام بالماء البارد والساخن والفاتر.

سوق دوما – البندر

تحولت بلدة دوما الى ملتقى لمتذوقي فن العمارة اللبنانية ومسرح لمخرجي السينما والمسرح لالتقاط مشاهد لافلامهم وبرامجهم، إذ تتكون البلدة من نحو 450 بيتا تراثيا وسوق اثرية قديمة مؤلفة من 110 محال مزينة بقناطر واعمدة. وعرفت سوق دوما عصرها الذهبي في القرن التاسع عشر، تخترقها خمس بوابات معدة لمناطق البترون وجبيل والهرمل وبعلبك وطرابلس وعكار. وعام 1881 مع تشكيل اول قوميسيون بلدي نظمت السوق وبدت الحركة نشطة، وبخاصة مع مجيء عائلات اليها من مناطق بعلبك وغيرها، فنشأت المدارس وتألفت الجمعيات، ودفع تطور البلدة في الصناعة والتجارة الى تعيين حاكم عليها من السلطنة العثمانية ، واصبحت معروفة بالناحية الجردية لبلاد جبيل والبترون.

البلدية

عرفت دوما بلدية بموجب فرمان سلطاني، والقوميسيون البلدي عام 1881، وهي ثاني بلدية في لبنان. يهدف القوميسيون الى تنظيم الحركة الاقتصادية في البندر. وعين حاكم الناحية الجردية لبلاد جبيل والبترون الشيخ انطوان بك طربيه رئيسا لاول قوميسيون بلدي في دوما، كما عين رئيسا الشيخ جرجس بك طربيه، وهما مديرا الناحية الجردية، وقد توليا رئاسته من عام 1881 الى 1906.
ورافق تأسيس البلدية إقامة مستوصف وصيدلية ومسرح ومحكمة ومخفر وسجن ومكتب بريد وبرق.

المعلوف

وتحدث رئيس البلدية جوزف المعلوف عن تطلعاته والأعمال الجارية، وقال: “تعمل البلدية على ترميم سوق دوما الأثرية القديمة، وأعدت لذلك ملفا تقدمت به إلى مجلس الإنماء والإعمار للتمويل من الدول المانحة، وقد وافق مجلس الإنماء والإعمار على مبلغ مليونين و680 ألف دولار أميركي. وتشهد البلدة مشروع إقامة حديقة عامة في وسطها، مساحتها ستة آلاف متر مربع، وقد بوشر العمل بها وتتضمن ملاعب رياضية ومسبحا ومدرجا وإستراحة مزينة بالأشجار. كما تشهد البلدة ورشة عمل لتأهيل مداخلها، وقد بوشر توسيع مدخلها من جهة تنورين”.

وأكد عزم البلدية المحافظة على التراث، لافتا إلى أنها “عقدت اتفاق توأمة مع بلدية دين الفرنسية في العام 1987 موقعا من رئيسها آنذاك سارج غلواجين، وإن زيارات متبادلة بين المسؤولين عن البلدتين لتبادل الخبرات، وتم تخريج دفعة من طلاب بلدة دوما الذين تعلموا في فرنسا على نفقة بلدية دين الفرنسية”.

وأشار الى “أن للبلدية نشاطات ثقافية من تكريم للطلاب المتفوقين إلى تكريم نخبة من اهل الإختصاص، ونشاطات صحية كإقامة الندوات والحملات الطبية المجانية، وتعمل على دعم الجمعيات والمؤسسات المحلية”.

وتناول سيرة رجالات لمعت في لبنان المقيم والمغترب، ذاكرا في بلاد الإنتشار ماري بشير حاكمة ولاية نيو ساوث ويلز الأوسترالية، وهي أول إمرأة تحتل هذا المنصب في الولاية، والمطران أنطونيوس بشير، والعمل جار على ترميم دارته وتحويلها إلى متحف بدعم من رئيس بلدية دوما السابق المهندس حنا أيوب.

سكة الشام

بلدة دوما تدعو اليوم زوارها الى التنزه في ربوعها، حيث السياحة البيئية على دروبها وبخاصة على سكة الشام، الطريق التي تربط البلدة ببلعا حيث بالوع طبيعي سياحي عبر مسالك أربعة تخترق ربوع البلدة وسط غابات من السنديان وحدائق من الأشجار المثمرة. ويذكر أن جميع المسالك يراوح طولها بين 2 كلم و7 كلم ويقصدها هواة المشي والسياحة البيئية.

أديرة وكنائس

والبلدة البترونية تعرف بدوما الحديد نسبة إلى معدن الحديد وصناعته، وبدوما طرابلس تمييزا عن دوما الشام، وفي البلدة أديرة وكنائس تزيد على 17 موقعا، منها سيدة النياح ومار سمعان ومار جرجس وسيدة البشارة ومار الياس ودير مار ضومط ومار شليطا ودير مار نهرا ومار نقولا ودير مار شربل ومار فوقا ودير مار سركيس (صالح للترميم).

الهجرة

تفاقمت الهجرة على أثر الحرب العالمية الأولى إلى الأميركتين، وعاد عدد من أهلها ليبنوا لهم بيوتا من الحجر والقرميد، مما جعلها من أجمل البلدات التراثية في لبنان. وإن تجذرهم بحب دوما دفعهم إلى تأسيس جمعيات على غرار الجمعيات في بلدتهم, حياة الوطن وفتاة الوطن وزهرة الإحسان والقربان المقدس والحبل بلا دنس. ويذكر أن عدد المنتشرين في الأميركتين واوستراليا يزيد على 30 ألفا، ومن أبنائها ماري بشير التي زارت بلدتها أكثر من مرة واستقبلت بحفاوة.

ذاكرة دوما

لقد قاتل أبناء دوما ببسالة في معركة عنجر إلى جانب الأمير فخر الدين المعني الأول. وكانوا يقيمون إستقبالا لائقا للبطل يوسف بك كرم كلما مر في البلدة، ويمدونه بالرجال.
لقد باشر أهالي دوما ممارسة حقهم الإنتخابي في إنتخاب مجلسهم البلدي في العام 1906.
وأبرز ما شهدته دوما تدشين الطريق الذي شقه أبناء البلدة على نفقتهم الخاصة إلى أميون عام 1905، وما زالت المحدلة التي استخدمت في حدل الطريق تحفظ على مدخل البلدية.
ونفي عدد كبير من السياسيين في لبنان وسوريا إلى بندر دوما، من سلطات الإنتداب وعلى دفعات في الأعوام 1922 و1926 و1928. وكان السوريون المنفيون وضعوا مسودة الدستور الأول لسوريا وهم في دوما.
وعام 1892 أسست في سوق دوما صيدليتان مخصصتان لبيع الأدوية، هما صيدلية النور وصيدلية الغنمي.
كذلك تأسست المدرسة المسكوبية عام 1905 مدعومة من القيصر الروسي آنذاك.

واقعة القشلاق

عمل الأتراك على تهجير أهالي دوما وحرقها أكثر من مرة، ومرد ذلك الى أن أهالي دوما نصبوا كمينا لقائد فرقة لجمع الضرائب وجنوده الأربعين لإمتناعهم عن دفع الضرائب. ويذكر أن شيخ البلدة دعا قائد الفرقة وجنوده إلى مأدبة عشاء وكان القائد ألح عليه بطلب إبنته ولم يشأ أن يزوجها. فأطبق أبناء البلدة على المدعوين وقتلوهم وقتلوا الخيل وطمروها في محلة تدعى جوار الخيل، وكانت تلك من أولى الحوادث التي تحصل ضد السلطنة العثمانية.

ويأمل أهالي دوما أن ترجع بلدتهم إلى سابق عهدها، علما أن إعادة الإزدهار إليها مرتبطة بتحسين المواصلات مع الكورة وطرابلس والبترون وجبيل وباستكمال أوتوستراد البترون-تنورين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.