بلدية بيروت… صندوق لخدمات المستقبل

0

صحيفة الأخبار ـ
غسان سعود:

تمثل بلدية بيروت مصدراً أساسياً لنفوذ تيار المستقبل في العاصمة، سواء من خلال الوظائف التي توفرها البلدية لأنصاره حصراً، أو من طريق الخدمات الكثيرة التي تتيح استقطاب رجال الأعمال وأبناء المدينة

لا وجود للمستحيل في بلدية بيروت. يمكن أن يختفي 8000 ليتر بنزين من مركز الإطفائية، ولا يعاقب أحد. يمكن أن تحصل مباراة لمجلس الخدمة المدنية وتكون النتيجة أن الذكاء يتركز في منطقة واحدة وطائفة واحدة ولون سياسي واحد. يمكن أن تلدغ ذبابات «تسي تسي» قرارات مجلس شورى الدولة النافذة، فتنام في أدراج سعادة المحافظ سنوات طويلة. يمكن أن يدفع المجلس البلدي ثلاث مرات ثمن دراسات لتجميل حديقة. يمكن أن يغير المجلس البلدي رأيه خلال 48 ساعة بشأن استملاك أرض.

يمكن أن يمول المجلس البلدي نشاطاً «ذا منفعة خاصة» لنواب الأشرفية. يمكن أن تسرق كابلات الإنارة من ملاعب الأشرفية الرياضية ثلاث مرات رغم وجود ثمانية حراس. يمكن أن يحضر موظف إلى مكتبه في البلدية عند السادسة صباحاً ويغادر عند السابعة والنصف. يمكن أن تقبل البلدية هدية محطة تكرير من «سوليدير»، رغم عدم امتلاكها القدرة على صيانتها. ويمكن لاحقاً أن تطلب البلدية من «سوليدير» صيانتها من دون تحديد مسبق للتكلفة المادية. مرة أخرى، لا شيء مستحيلاً في بلدية بيروت.

سبع البلدية

بعد الانتخابات النيابية عام 2005، بدأ تيار المستقبل تكريس سيطرته على هذه المؤسسة أسوة بمؤسسات رسمية أخرى يراها حيوية وأساسية في إدارته للبلد. في البداية، عمد وزير الداخلية الأسبق حسن السبع إلى التدخل في مختلف التعيينات داخل البلدية، من رئيس المصلحة إلى رئيس القلم، ليضمن سيطرة «المستقبل» على سبع مصالح من ثمانٍ تدير العمل البلدي. وقد تطلبت «مصلحة المستقبل العليا»، هنا، تجاوز المحاصصة المذهبية التقليدية، فأُبعد الموظفون الشيعة عن مركزي الطائفة الأساسيين في البلدية: مدير مصلحة المالية ومدير مصلحة أمانة المجلس البلدي، وحلّ موظف ينتمي سياسياً ومذهبياً إلى «المستقبل» في الموقع الأول (المالية)، وترك الموقع الثاني شاغراً حتى لا يطلع أحد على بريد رئيس البلدية. وحل مستقبليّ، سياسياً ومذهبياً، في موقع مدير مصلحة المصنفة الذي كان يشغله بحسب العرف (السيئ الذكر) موظف من الطائفة المارونية. وشملت الخطوة الأولى أيضاً تعميم اللون السياسي الواحد للموظفين على مستوى رؤساء الدوائر.

الرقابة ممنوعة

لاحقاً، سارع المخططون في «المستقبل» إلى إنقاذ صندوقهم الأسود من احتمال الانكشاف أمام أحد أجهزة الرقابة عبر ست خطوات أساسية:
1 ـــــ عُيِّن رئيس دائرة الخزينة علي عثمان، رئيساً لمصلحة المالية، فبات يصرف ويراقب نفسه بنفسه. وحتى إذا أخطأ بكل عفوية في الجمع أو الطرح أو القسمة، فلن يجد من ينبهه إلى ذلك.
2 ـــــ عُيِّن رئيس دائرة المراقبة في مصلحة الهندسة إلياس هدايا، رئيساً لمصلحة الهندسة. وبالتالي إذا اعترف إلياس هدايا بصفته رئيس دائرة المراقبة بوجود مخالفة على امتداد الأراضي البيروتية، سواء في رخص الإشغال أو أعمال التزفيت أو إشغال الأرصفة (التي يتحول بعضها يومياً إلى مسالخ)، فمن الذي سيعاقب؟ الجواب: إلياس هدايا رئيس مصلحة الهندسة.
3 ـــــ عُيِّنت رئيسة الدائرة الإدارية في مصلحة المالية غنى عراجي، رئيسة لدائرة تحقق الواردات بالتكليف. ولاحقاً حصلت هنا قصة مضحكة: نجحت إحدى المتسابقات في مباراة الخدمة المدنية على موقع رئيسة دائرة تحقق الواردات، فما كان من المعنيين إلا أن أقالوا عراجي من رئاسة دائرة الإدارية بالأصالة، وثبتوها رئيسة أصيلة لدائرة تحقق الواردات، وعينوا الموظفة الجديدة رئيسة للدائرة الإدارية التي لا تؤثر على عملهم مباشرة.
4 ـــــ ألغي قسم المراقبة في مصلحة المصنفة عبر إبقاء جميع الوظائف فيه شاغرة، لتسرح بذلك مديرة المصلحة بلا حسيب أو رقيب. ومن هي مديرة المصنفة؟ جاهدة عيتاني التي توصف بمسؤولة تيار «المستقبل» في بلدية بيروت. وهي عينت في موقعها الحساس جداً خلافاً للقانون. فهي مهندسة معمارية، فيما ينص القانون على وجوب أن يكون مدير مصلحة المصنفة التي تعنى بكل ما يتعلق بالمطاعم والفنادق والسلامة العامة، مهندساً مدنياً أو مهندس كهرباء أو ميكانيك.
5 ـــــ «الصدف»، ولا شيء غير «الصدف»، دفعت وزارة الداخلية والبلديات إلى انتداب ابنة نقيب المهندسين السابق المستقبلي سمير ضومط لتكون المراقبة العامة لبلدية بيروت. لكن الرئيس الحالي للمجلس البلدي بلال حمد لا يحب «الصدف»، فيحاول استبدال ديالا ضومط بأحد المقربين جداً منه: محاسن سنّو، عبير غلاييني أو إيهاب ناصر الدين.
6 ـــــ ضرب فعالية جهاز التفتيش في البلدية عبر تكليف موظف «مسالم» جداً في هذا الموقع هو عبد الله شحيدر. و«سلمية» شحيدر تكون مضمونة: حين يكون شقيقه روبير موظفاً في المجلس البلدي خلافاً للمادة الـ74 من قانون البلديات (118) التي تنص على أنه «لا يجوز أن يكون الأب وأحد الأولاد والأخوة موظفين في بلدية واحدة». وحين يبتدع لابن زوجته وظيفة جديدة اسمها «مفتش فجائي»، فيعينه فيها (خلافاً للمادة الـ74 أيضاً). وحين يستعمل سيارة البلدية ويأخذ شهرياً بدل بنزين خلافاً للقانون. ينتج كل ذلك تقارير «مسالمة» جداً. يروى هنا أن موظفاً واظب على اللجوء إلى التفتيش، متمسكاً بمبادئ النزاهة والشفافية. وها هو اليوم يردد كالتائه: «إلى الماء يسعى من يغصّ باللقمة، إلى أين يسعى من يغصّ بالماء؟». تجدر الإشارة إلى مخالفة رئيس دائرة الصرفيات في البلدية رفيق نصر الدين المادة الـ74 أيضاً، بعد أن عين ابنه وخمسة من أقربائه في البلدية بصفة مراقبي رسوم.

المحافظ مسؤول

ثالثة خطوات «المستقبل» كانت استبدال مجلس عبد المنعم العريس الذي تحكم ببيروت دورتين متتاليتين بمجلس أقدر على مواكبة الاحتياجات الحريرية. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن المجلس البلدي في العاصمة هو سلطة تشريعية، أما السلطة التنفيذية فهي مسؤولية المحافظ، الذي حال وجوده دون انفراد تيار «المستقبل» في إدارة البلدية.
هذا يعني أن المحافظ يتحمل جزءاً أساسياً من المسؤولية عن حالة البلدية، ولا يمكن في هذا السياق تحييده، في ظل اتهامه بحماية الفريق المستقبلي داخل البلدية عبر إخفائه قرارين لمجلس شورى الدولة يمكن في حال تنفيذهما إعادة كثير من الموظفين إلى أحجامهم الطبيعية. مع العلم بأن مصادر المحافظ حين تريد انتقاد رئيس المجلس البلدي تكتفي بالحديث عن «الكيدية الطائفية» وعن «هدر حقوق المسيحيين»، من دون الإشارة إلى الفساد الذي يقول بعض الموظفين إنه «معشّش» في البلدية. وفي سياق اتهام المقربين من المحافظ لرئيس المجلس البلدي بتحريض الموظفين السنّة على الموظفين المسيحيين، يعمد هؤلاء أنفسهم عبر كلامهم هذا إلى تحريض الموظفين المسيحيين على الموظفين المسلمين.

الملف يواجه بالملف

في حالة البلدية اليوم، يجمع كل موظف المعلومات والملفات عن الموظف الآخر، لاستعمالها حين تستدعي الحاجة. هناك موظفون لا يريدون أكثر من موقف لسياراتهم، يعلمون أنهم لن يستطيعوا الحصول عليه من البلدية إن لم يطيعوا سلطات الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف في البلدية. في دائرة المكننة مثلاً، رفض رئيس الدائرة بالتكليف توصية مرؤوسيه بالتوقيع مع إحدى الشركات الخاصة قبل إنجازها العمل المطلوب منها، فما كان من رئيسه إلا أن طلب من مجلس الخدمة المدنية عرض الوظيفة، ليأتي برئيس أصيل لدائرة المكننة ويبعد الرئيس المكلف.
في المقابل، ثمة موظفون لا يشبعون. تروى في أحد مكاتب البلدية أخبار كثيرة، لكنها غير موثقة، عن احتجاز مبالغ مالية لا تدفعها لمستحقيها من دون إكرامية. وقد فوجئ أحد المشتكين في المحافظة بمسؤول هناك يجيبه: «سايرك بالسعر، أكرمه يكرمك الله». ولا يسلم مكتب المحافظ هنا من الاتهامات، فمحافظ بيروت بالوكالة وطرابلس بالأصالة يوقّع في بيروت وحدها يومياً أكثر من مئتي معاملة، من دون أن يدقق فيها. وحين يضطر إلى التغيب بضعة أيام عن العمل، يتجاوز عدد المعاملات المتنوعة التي يوقّعها ألف معاملة (من ترخيص مطعم إلى ترخيص ورشة بناء)، الأمر الذي يثير علامات استفهام جدية بشأن طبيعة التدقيق في هذه المعاملات قبل توقيعها. مع العلم بأن المحافظ يوقع، تاركاً لغيره أن يضع تاريخ التوقيع وختم المحافظ، الأمر الذي يتيح لبعض المواطنين التشكيك في إخفاء أحد الموظفين في مكتب المحافظ بعض المعاملات وتأخير تسليمها لأصحابها «لأسباب خاصة بهذا الموظف وحده».
هكذا، يضمن تيار «المستقبل» سيطرة الموظفين المحسوبين عليه على هذه الإدارة، وتفلتهم من كل حسيب ورقيب ليضمنوا تسيير مرجعيتهم لمصالحها من هذا الصندوق الإضافي غير المحسوب بين الصناديق الشهيرة.

——————————————————————————–

المحافظ يهدد بالاستقالة

نجح «المستقبل» في توفير أكثر من مئة وظيفة لأنصاره دفعة واحدة في بلدية بيروت حين تأجلت «فجأة» مباراة مجلس الخدمة المدنية، فتحولت، «فجأة» أيضاً، البلدية إلى خزان أساسي لناخبي إقليم الخروب. قبل ذلك، كان «المستقبل» قد أدخل عدداً كبيراً من مهندسيه إلى دائرة المباني في البلدية، رغم افتقار بعضهم إلى الاختصاص الهندسي المطلوب. أما الموظف المعارض لتيار «المستقبل»، فينقل بسرعة إلى إحدى الدوائر الهامشية والبعيدة. ورغم مرور تسعة أشهر، لم يهضم رئيس المجلس البلدي بعد تعاقد البلدية أخيراً مع نحو مئة موظف من دون المرور بمصفاتهم، فتنبه رئيس دائرة الصرفيات رفيق نصر الدين «فجأة»، أخيراً، إلى أن العقد الموقع مع هؤلاء يحرمهم العائدات والمساعدات المرضية والمدرسية، فامتنع لأول مرة منذ 9 أشهر عن الدفع، لتنشب نتيجة ذلك أزمة بين نصر الدين والمحافظ، لوّح بموجبها المحافظ بالاستقالة. وكان نصر الدين نفسه قد انتبه «فجأة»، أيضاً، قبل بضعة أشهر إلى وجوب خفض الإجازة السنوية للأجراء من 20 يوماً إلى 15، ومحاسبتهم هم بدل محاسبة نفسه، على عدم تطبيق القانون كما تقتضي الأصول في السنوات العشر الماضية.

——————————————————————————–

ورقة يانصيب و«برغش»… و«سوكلين»

في ظل الشحّ المالي لتيار «المستقبل»، تبدو بلدية بيروت التي تملك في خزينتها نحو 800 مليار ليرة، أشبه بورقة اليانصيب التي تشبع أنصار «المستقبل».
الصفقات الأهم للمقربين تكمن في تلزيمات البلدية. فبدل استفادة بلدية بيروت من الثروة التي تملكها لتنشئ شركة مقاولات خاصة بها، تصر على التعاون مع «الإنماء والإعمار» لقاء بدل مالي خيالي. والمشكلة الأساسية هنا أن البلدية تُلزِّم المجلس من دون مراقبة مسبقة. كذلك، تكلف البلدية كل بضعة أشهر شركات محسوبة على المستقبل إعداد دراسات لمشاريع شبه وهمية، لا أحد يقرأها ويعاد طلبها وإعدادها هي نفسها لقاء مبالغ مالية جديدة. حرج بيروت مثل آخر: تقاضى المتعهد بدل أتعاب لأعمالٍ، كشف نمو الأشجار لاحقاً أنه لم يجرها. أما دواء البرغش فوقّع العقد على أساس تضمنه تركيبة معينة، ليرش لاحقاً في المدينة تركيبة أخرى. لا تسألوا من الآن وصاعداً عن سبب تضاعف حجم البرغش في مدينتكم.
يستفيد المستقبل كثيراً من الخدمات التي توفرها البلدية، فلا يحلم أحد في ترخيص بناء أو مطعم أو رفع إعلان أو حجز موقف لسيارته من دون رضى «المستقبل». كل من يحتاج إلى براءة ذمّة من بلدية بيروت، هو عملياً يحتاج إلى براءة ذمة من تيار «المستقبل». الابتزاز يكبر مع ظاهرة «إشارة الاستملاك». لا يفوت بلال حمد مناسبة من دون أن يفتح خريطة لمدينة بيروت ويعلم أعضاء المجلس بنيته وضع إشارة استملاك على هذا العقار أو ذلك، الأمر الذي يدفع صاحب العقار إلى الركض خلف «الريّس» ليرجوه «بالتي هي أحسن» رفع إشارة الاستملاك عن عقاره. حصل ذلك أخيراً مع صاحب أرض قريبة من مستشفى الروم. فقد الرجل أنفاسه واستعادها بعد زيارة «الريّس»، مع العلم بأن رئيس المجلس البلدي قرر أخيراً ـــــ لأسباب بريئة جداً ـــــ إلغاء تخطيطين في مدينة بيروت، فرفع إشارة استملاك لأرض تخص أحد المقربين من حزب الله، وأخرى في الأشرفية، الأمر الذي دفع عشرات البيارتة إلى الاحتشاد على درج البلدية مطالبين رئيس مجلسها بأن تشمل هذه الخطوة الطائفة السنية أيضاً.
أملاك البلدية تفيد «المستقبل» أيضاً وأيضاً؛ ففي دائرة الأملاك البلدية يعمل موظف واحد. أملاك بلدية بيروت؟ مساحات شاسعة. موقف هنا، ملعب هناك، حديقة هنا، أرض مهملة هناك. كلها بتصرف تيار «المستقبل» والمؤسسات القريبة منه. ثمة أرض تتجاوز مساحتها سبعين ألف متر مربع بين منطقتي النهر وساحة الشهداء، لا يتجاوز مردودها السنوي للبلدية مئة مليون ليرة. الأراضي الشاسعة التي تشغلها شركة سوكلين على نحو شبه مجاني هي ملك البلدية.
أخيراً، هناك المساعدات الاجتماعية ومساعدات الجمعيات التي هي أشبه بمال سياسي يصرفه تيار «المستقبل» من جيب الدولة على مدار السنة. الكارثة بالنسبة إلى المقربين من المحافظ تكمن في ذهاب 15 مساعدة اجتماعية فقط من أصل 138 صرفت في شهر 7 لأفراد مسيحيين. لكن قائمة المنتفعين من هذه المساعدات تظهر أن غالبيتهم الساحقة من الناشطين في تيار «المستقبل»: أحد كوادر التيار في طريق الجديدة (من آل عيتاني) يحصل على مساعدة شهرية بقيمة مليون ليرة لكل من بناته الثلاث، فيما يُحصِّل جاره في المنطقة نفسها مليون ليرة لكل من ابنتيه حنان وسهام. ومن الأفراد إلى الجمعيات، النماذج كثيرة. من جمعية مستشار رئيس المجلس البلدي التي تحصل على عون مادي تلو الآخر ولا تنجز غير الروزنامات، إلى نواب الأشرفية الذين تقدموا من البلدية باسم جمعية خاصة بطلب الحصول على مبلغ 15 مليون ليرة لإحياء مهرجان «عيش الأشرفية»، فدفعت البلدية لهم المبلغ كاملاً، وكأن أموال النائب ميشال فرعون لا تكفيه لإحياء مهرجان، هو والنائب نديم الجميّل بطلاه الأساسيان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.